فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الكلبي: دعوتنا.
وقيل: وعظتنا، وقيل: أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك.
وقرأ ابن عباس: فأكثرت جدلنا كقوله: {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلًا} فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي، والعائد محذوف أي بما تعدناه، أو مصدرية، وإنما كثرت مجادلته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم.
قال: إنما يأتيكم به الله، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي: إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه، ولا أن تمتنعوا.
ولما قالوا: قد جادلتنا، وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال: ولا ينفعكم نصحي.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: نصحي بفتح النون، وهو مصدر.
وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدرًا كالشكر، واحتمل أن يكون اسمًا.
وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره: إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني: اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضًا ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي.
وصار الشرط الثاني شرطًا في الأول، وصار المتقدم متأخرًا والمتأخر متقدّمًا، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إنْ كان الله يريد أن يغويكم.
فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي.
ونظيره: {وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} وقال الزمخشري: قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني.
وقال ابن عطية: وليس نصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك.
والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين، وأنّ إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى.
وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال: جواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع.
والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله: غوى الرجل يغوي وهو الضلال.
وفيه إسناد الإغواء إلى الله، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون: إن الضلال هو من العبد.
وقال الزمخشري: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشادًا وهداية انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف، فلا ينبغي أن يقال: إذا عرف الله كما قال الزمخشري، وللمعتزلي أن يقول: لا يتعين أن تكون إن شرطية، بل هي نافية والمعنى: ما كان الله يريد أن يغويكم، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى، ويكون قوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر.
وقيل: معنى يغويكم يهلككم، والغوي المرض والهلاك.
وفي لغة طيء: أصبح فلان غاويًا أي مريضًا، والغوي بضم الفصيل وقاله: يعقوب في الإصلاح.
وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعًا قاله: الفراء، وحكاه الطبري يقال منه: غوى يغوي.
وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك، أو لما يهلك بعد.
قال ابن الأنباري: وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجودًا في لسان العرب، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره.
وإذا كان معنى يغويكم يهلككم، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني، بل الحجة من غير هذا، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ وفي قوله: هو ربكم، تنبيه على المعرفة بالخالق، وأنه الناظر في مصالحكم، إن شاء أن يغويكم، وإن شاء أن يهديكم.
وفي قوله: وإليه ترجعون، وعيد وتخويف.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
قيل: هذه الآية اعترضت في قصة نوح، والإخبار فيها عن قريش.
يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: افترى القرآن، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي: بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه، فقال عليه السلام قل: إن افتريته فعليّ إثم إجرامي، والإجرام مصدر أجرم، ويقال: أجر وهو الكثير، وجرم بمعنى.
ومنه قول الشاعر:
طريد عشيرة ورهين ذنب ** بما جرمت يدي وجنى لساني

وقرئ أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم، ذكره النحاس، وفسر بآثامي.
ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ، وقيل: مما تجرمون من الكفر والتكذيب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} ولما حجّهم عليه الصلاة والسلام وأبرز لهم بيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججًا تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العللُ وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المعجّلِ أو العذابِ الذي أشير إليه في قوله: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقول: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} يعني أن ذلك ليس موكولًا إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلًا أو آجلًا إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة، وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل: الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه، ونقيضُه الغشُّ وقيل: هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} شرطٌ حذف جوابُه لدلالة ما سبق عليه، والتقديرُ إن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعُكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} والتقديرُ إن كان يريد أن يُغوِيَكم فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ، وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} جزاءٌ للشرط الأولِ، والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني، وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} صدر عنه عليه الصلاة والسلام إظهارًا للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد، وإيذانًا بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصامِ بل بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهدًا في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبيله المستبينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم، وتقييدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محققٌ لا محالة للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل: إن كان الله يغويكم مبالغةً في بيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم، فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم.
وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زمانًا كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها، وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} ردًا عليهم من أول الأمرِ وتسجيلًا عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال، وفيه دليلٌ على أن إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع، وقيل: معنى أن يغويَكم يُهلكَكم، من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك: {هُوَ رَبُّكُمْ} خالقُكم ومالكُ أمركم: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه}
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني نوحًا عليه الصلاة والسلام، ومعناه بل أيقولُ قومُ نوحٍ إن نوحًا افترى ما جاء به مسنِدًا إياه إلى الله عز وجل: {قُلْ} يا نوح: {إِنِ افتريته} بالفرض البحْت: {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرئ بلفظ الجمع، وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي: {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ، فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي. وقال مقاتلٌ: يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقًا لحقيتها وتأكيدًا لوقوعها وتشويقًا للسامعين إلى استماعها، لاسيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بينه عليه السلام وبين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ} أي خاصمتنا ونازعتنا، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل القصر المحكم البناء، وسميت المنازعة جدالًا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة: {جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها، ولا حاجة إلى تأويل: {جَادَلْتَنَا} بأردت جدالنا كما قاله الجمهور في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا، وهو كما قال ابن جني اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل.
وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المعجل، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] بناءًا على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة، و: {مَا} موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به، وفي البحر تعدناه، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} أي إن ذلك ليس إلى ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلًا أو آجلًا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة، وفيه كما قيل: ما لا يخفى من تهويل الموعود، فكأنه، قيل: الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزًا بدفع العذاب أو الهرب منه، والباء زائدة للتأكيد، والجملة الاسمية للاستمرار، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة، وقيل: هو إعلام مواقع الغي ليتقى.
ومواضع الرشد ليقتفى، وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته، وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، وقرأ عيسى ابن عمر الثقفي: {نُصْحِى} بفتح النون وهو مصدر، وعلى قراءة الجماعة على ما قال أبو حيان يحتمل أن يكون مصدرًا كالشكر، وأن يكون اسمًا: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابًا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلًا كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فالجواب للأول، واستغنى به عن جواب الثاني، وزعم ابن مالك أن الشرط للثاني مقيد للأول بمنزلة الحال، فكأنه قيل في المثال: إني جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه، فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدًا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجئ.
ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة، وذكر الجصاص أن فيها خلافًا بين محمد.
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط، وقال بعض الفقهاء: إن الجواب للأخير.
والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني.
والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول، ثم كلام، ثم مجئ، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرًا قال: إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة، وكما في قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ** منا معاقل عز زانها كرم

إذ لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدمًا إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى.
وقد ألف في المسألة رسالة كما قال الجلال السيوطي وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعًا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدمًا في المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدًا لذلك نظير إن أحسنت إلى أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] صدر عنه عليه السلام إظهارًا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانًا بأن ما سبق منه إنما كانب طريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدًا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك.